رائحة الشمع المحترق

الساعة تشير إلى الثانية صباحًا.
ليلى تجلس في الزاوية نفسها، في الغرفة نفسها، أمام شمعة وحيدة توشك على الذوبان.

ما عاد في كهرباء في قلبها، ولا نور في عيونها.
تعيش وحدها منذ أربع سنوات، منذ أن فقدت “سليم”… حب عمرها، وزوجها الوحيد، والرفيق اللي ما كانت تتخيل أن الحياة تقدر تكمل من دونه.

سليم… لم يمت فجأة. بل انطفأ مثل الشمعة.

السرطان أخذ منه كل شيء، أولًا ابتسامته، ثم صوته، ثم يديه، ثم… عيونه.
لكن الشيء اللي ما قدر المرض ياخذه منه: حبه لليلى.
كان يحبها حتى وهو عاجز عن النطق.

: حجرة فارغة

في الزاوية المقابلة من الغرفة، كرسي سليم… ما زال في مكانه.
ليلى ما لمسته، ما نظفته، حتى بطانيته ما زالت عليه.

تجلس أحيانًا وتكلمه كأنه حي:

“سليم، تحب الشاي زي دايم؟ ولا تبيني أغير لك النعناع؟”

ثم تضحك بصوت مكبوت، وتبكي فورًا.

كل شيء حولها يذكرها فيه: رائحة عطره في دولابه، دفتره الصغير اللي كان يكتب فيه أشعاره لها، وحتى الحذاء اللي ما لبسه بعد الجلسة الأخيرة في المستشفى.

 رسائل لم تُرسل

ليلى كانت تكتب لسليم كل يوم بعد وفاته.
في دفتر جلدي، كتبت أكثر من 200 رسالة.

“اليوم شفت بنت صغيرة تشبهك يوم كنا صغار. حسّيتك تبتسم لي.”
“اشتريت لك نوع القهوة اللي تحبه… نسيته على الطاولة، بس ريحته حطمتني.”
“أنا حزينة يا سليم، مو بس عشانك رحت… بس لأني بعدك، ما عدت أعرف أعيش.”

كانت تعرف أن الورق لا يرد، وأن القبر لا يسمع…
لكنها كانت تحتاج تحكي، قبل لا تنطفئ الشمعة الأخيرة داخلها.

 شتاء الغياب

أول شتاء بعد رحيله كان الأصعب.
برد من نوع ثاني… برد داخلي، ينخر الروح.

كل من حولها يقول: “اصبري، الزمن يداوي.”
لكن الزمن مر، وما شفى.
كل اللي عمله أنه علمها تعيش بالألم… تتنفس الحزن وكأنه جزء من الرئة.

قامت في يوم ممطر، مسحت الغبار عن بيانو سليم… كانت أول مرة تلمسه من رحيله.
جلست تعزف لحنه المفضل، وكانت دموعها تنزل على الأصابع قبل ما تنزل على المفاتيح.

 الضوء الذي لا يدفئ

في أحد الأيام، رنّ جرس الباب.
كان ابن جيرانها الصغير، “مالك”، يحمل لها كعكة عيد الميلاد.

قال لها:

“خالتي ليلى، ماما تقول لازم تاكلي كيك! اليوم عيدك.”

نظرت للشمعة في الكعكة، ترددت، ثم أطفأتها بابتسامة حزينة.
قال لها الصغير:

“وش طلبتي أمنية؟”

ردت عليه بهمس:

“طلبت أوقف أشتاق له، بس ما أظن الشمعة تقدر تسوي كذا.”

 رسالة وداع
بعد 4 سنوات من الوحدة، قررت تكتب آخر رسالة لسليم…
لكن هالمرة، ما كانت مليئة بالحزن، بل بالحقيقة.

“يا سليم، أنا تعبت… مو من الحياة، بل من الإنتظار.
اشتقتلك بطريقة ما توصف، لكن ما عاد فيني أبكي.
اليوم راح أطلع، وأحاول أعيش. مو نسيان، لكن احترام لك.
وعدتني قبل تمشي، إنك تفرح لو رجعت أضحك… فاليوم، راح أبدأ أحاول.”

قفلت الدفتر.
مسحت دمعتها.
وأول مرة، طلعت من البيت… بدون حزن على كتفها.

الفصل الأخير: قبل أن تنطفئ الشمعة
ليلى جلست آخر الليل، ونظرت للشمعة الوحيدة.
رفعت عيونها للسماء، وقالت:

“سليم، راح أعيش… بس بحبك جوّاي، مش بحزني.”

وطفأت الشمعة بيدها.

لكنها، للمرة الأولى… ما شعرت بالظلام.

بل شعرت أن نورك يا سليم، ما عمره انطفأ.
كان جواها، دايمًا… حتى وهي تحترق.

النهاية
“قبل أن تنطفئ الشمعة”
مش بس قصة فقد، بل درس في إن الحب الحقيقي… ما يموت.
لكننا لازم نعيش، حتى لو الحزن ساكن القلب.

Exit mobile version